لا يخفى على المتخصص والمثقف أن الكتاب عبارةٌ عن صلةٍ بين السابق واللاحق، وحبلٍ ممدود عبر السنين يصل المتأخر بالمتقدم، وراحلةٍ يمتطيهاالـمُفَكِّر بين الشعوب والبلدان، ووثيقةٍ يُشَيِّدُ عليها السياسي بنيان وطنه، ومواعظَ وعِبَرٍ يلقيها الصَّارفُ على العاكف.
وعلى الوجه الآخر .. ربما كان الكتاب مدفعاً تُدَكُّ به حصونُ الدُوّل، وكَدَراً يعكر صفو عقد المجتمع، ورجساً يلوث أخلاق النزيه فيُصَيِّرُهُ إلى داعِر أثيم،وربما كان الكتاب يداً تخلع من الـمَصونَةِ جلباب العفة، وتدسها في دَرَنِالرذيلة.
مما حدا بأولى النفوذ والسلطان في كل صُقْعٍ ومِصْرٍ أن يعظموا كتباًاستحسنوها، ويتلفوا أخرى استهجنوها؛ أَجَلُّوُا تلك وأكرموها لنفعها الملموس، وخيرها المحسوس، وامتهنوا تلك وطمسوها لشرها السافر وباطلها الظاهر.
وتتنوع دوافع إتلاف الكتب عبر التاريخ، منها أسبابٌ شرعية، ومنها استدراكاتعلمية، ومنها مطامع سياسية، ومنها نعرات قَبَلِيّة، ومنها وساوس نفسية، ومنها دوافع تعصبية … إلى آخره.
لكن ما يشد انتباه القارئ هو ما يعثر عليه في سِيَر وتراجم علماءٍ مسلمين؛ أن بعض أولئك الأعلام -خصوصاً المحدِّثين منهم- يتخلص من كُتبه أو صُحُفه بطريقةٍ أو بأخرى، لعل من أكثرها “الدَفْن” و”الحرق” “الغَسْل”.
ولعل الصحابةَ أولُ مَن فعل ذلك في هذه الأمة، وذاك حينما نسخ عثمان بن عفان رضي الله عنه “المصحف العثماني” وأرسل نسخاً منه لعدة أمصار، أمر بحرق النسخ القديمة، وأقرَّه عليه جمهور الصحابة.
وممن ورد عنه أنه أتلف ما كَتَبَهُ: سفيان الثوري، عبد الله بن المبارك، إسحاق بن راهويه، محمد بن يحيى، علي بن مسهر،يوسف بن أسباط، بشر الحافي، محمد بن يوسف بن معدان، محمد بن رودبار، سلم بن ميمون الخواص، عطاء بن مسلم، محمد بن عبيد الله العرزمي، مؤمل بن إسماعيل، وغيرهم.
وحتى لا يحصل خلط في الموضوع، أنبه القارئ الكريم أن الكتب التي دفنها أولئك الأئمة، هي الكتب التي كتبوا فيها مرويّاتهم الخاصَّة، وما سمعوه من مشايخهم من الأحاديث ، وليست الكتب التي يتبادر الذهن إليها اليوم، لئلا يُتلف “تالف” كُتُبَ الإسلام المطبوعة الموجودة بين أيدينا الآن!
نعود ونقول: ربما يتساءل أحدٌ عن سبب ذلك الفعل، ودوافعه من أولئك العلماء، ولعلنا نلخص ذلك في خمسة أسباب:
1-إتلاف شيء محترم، تكون المصلحة في إتلافه، كمن كان عنده مصحف قد بَلي، أو غير ذلك من الأسباب، كما ورد عن بعض الصحابة لما دفنوا مصاحفهم خوف الفتنة.
2-الندم على كتابة أشياء فيها، ما كان ينبغي له أن يكتبها، كما روى عن الأَصْمَعِيِّ: “أَنَّ الثَّوْرِيَّ أَوْصَى أَنْ تُدْفَنَ كُتُبُهُ، وَكَانَ نَدِمَ عَلَى أَشْيَاءَ كَتَبَهَا عَنْ قَوْمٍ“، ويكمن أن نسمي هذا بــــ “السبب العِلمي”.
3-الزهد والورع الغالب على العُبَّاد، فيُتلفون الكتبَ خوفاً من عدم تحقيق الإخلاص، ومما ورد عنهم ذلك:
–بِشْرُ بنُ الحَارِثِ المَشْهُوْرُ: بِالحَافِي، قال الذهبي: “ كَانَ يَزُمُّ نَفْسَه، فَقَدْ كَانَ رَأْساً فِي الوَرَعِ وَالإِخْلاَصِ، ثُمَّ إِنَّهُ دَفَنَ كُتُبَهُ … رُوِيَ عَنْ بِشْرٍ أَنَّهُ قِيْلَ لَهُ: أَلاَ تُحَدِّثُ؟ قَالَ: أَنَا أَشْتَهِي أَنْ أُحَدِّثَ، وَإِذَا اشتَهَيتُ شَيْئاً، تَرَكْتُه! … وقال: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، إِنَّ لِذِكرِ الإِسْنَادِ فِي القَلْبِ خُيَلاَءَ“.
–وكما دفن الحسن بن رودبار كتبه، وقال: “لَا يصلح قلبِي على الحَدِيث“.
4-أن يكون القصد من الكتابة مجرد الحفظ والإتقان، فمتى ظنَّ أنه أتقنها ..أتلفها، على مذهب مَن يرى عدم جواز كتابة الحديث، أو أن الاتكال على الكتاب يُضعف الحفظ، وهؤلاء كثيرون إن لم يكونوا أكثرَهم، أمثلة ذلك:
–ما أخرج الخطيب في “تقييد العلم“ عن خَالِد الْحَذَّاء أنه قال: مَا كَتَبْتُ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا حَدِيثًا طَوِيلًا، فَإِذَا حَفِظْتُهُ مَحَوْتُهُ.
–وأخرج عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ وَيَكْتُبُهُ، فَإِذَا حِفْظَهُ دَعَا بِمِقْرَاضٍ فَقَرَضَهُ.
5-الخوف من وقوع كتبه في يد مَن لا يحسن فهمها، فيكون الإثم على كاتبها:
عن محمد بن سيرين أنه قال: “كانوا يرون أن بني إسرائيل، إنما ضلوا بكتب ورثوها“، قال أحمد: “من كتب وجدوها عن آبائهم“.
قال الخطيب البغدادي: “وكان غير واحد من المتقدمين إذا حضرته الوفاة أتلف كتبه، أو أوصى بإتلافها، خوفًا من أن تصير إلى من ليس من أهل العلم، فلا يعرف أحكامها، ويحمل جميع ما فيها على ظاهره، وربما زاد فيها ونقص، فيكون ذلك منسوبًا إلى كاتبها في الأصل، وهذا كلُّه وما أشبهه قد نقل عن المتقدمين الاحتراس منه”.
آراء العلماء في دفن الكتب:
لعلنا نستشف من كلام أهل العلم ثلاثة آراء:
الرأي الأول: عدم جواز كتابة العلم أصلاً، للخلاف في كتابته قديماً، ولأنالاتكال على الكتاب يضعف الحفظ، وغيرها من التعليلات.
الرأي الثاني: جواز الكتابة لأجل الحفظ فقط -خصوصاً الأحاديث الطويلة-، ثم إتلافها بعد ذلك.
الرأي الثالث: عدم جواز إتلاف كتب العلم لداعي الزهد أو الخوف من وقوعه بيد مَن لا يُحسن العلم:
قال أحمد بن حنبل: “لا أعلم لدفن الكتب معنى“.
وقال الرّبيع خرج علينا الشَّافِعِي رَحمَه الله ذَات يَوْم فَقَالَ “لنا اعلموا رحمكم الله أَن هَذَا الْعلم يند كَمَا تند الْإِبِل فاجعلوا الْكتب لَهُ حماة والأقلام عَلَيْهِ رُعَاة“.
أثر دفن الكتب على محفوظ الراوي:
لا شك أن الناس يتفاوتون في الحفظ قوة وضعفاً، فمنهم مَن يكون حفظه كالنقش في الحَجَر، ومنهم دون ذلك، ومنهم من يكون حفظه كالرَّقْم على الماء.
فمن المحدثين من إذا حفظ، لا يكاد ينسى، كما قال الشَّعبي: “ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده عَلَيَّ”.
إلا أن بعض المحدثين لما أتلف كتبه أتلف حفظه، فصار النقاد يجرحونه بسبب سوء حفظه، منهم:
–عطاء بن مسلم، سئل عنه أبو زرعة الرازي، فقال: “دفن كتبه ثم روى من حفظه ، فَيَهِمُ فيه ، وكان رجلاً صالحًا“.
-كذلك محمد بن عبيد الله العرزمي، قال ابن سعد: “دفن كتبه ، فلما كان بعد ذلك حدَّث وقد ذهبت كتبُهُ ، فضعَّف الناسُ حديثَهُ لهذا المعنى“.
-وكذلك سلم بن ميمون الخواص، “كان سلم بن ميمون الخواص دفن كتبه ، وكان يحدث من حفظه فيغلط”.
أثر إتلاف الكتب على الشريعة:
قد ينقدح في ذهن بعض الناس سؤال يقول: هل بإتلاف الكتب ضاع شيء من العلم الشرعي والأحاديث النبوية؟
الجواب: لا؛ لأن الذين أتلفوا كتبهم قِلَّة، معروفون، والمتون التي أتلفوها مروية من طرق أخرى كثيرة شاركهم فيها الحفاظ، منها ما يصح ومنها ما لا يصح، قال الإمام البخاري : “أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح“.
ودِينُ اللهِ تعالى تام محفوظ بحفظ الله له، كمال قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، وقال صلى الله عليه وسلم: “تركتُ فيكم شيئَينِ، لن تضِلوا بعدهما : كتابَ اللهِ، وسُنَّتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحوضَ“.
مراجع للاستزادة:
– حرق الكتب في التراث العربي لناصر الحزيمي.
– حرق الكتب تاريخ اتلاف الكتب والمكتبات لخالد السعيد.
– ظاهرة إتلاف الكتب بواعثها وآثارها وموقف المحدثين منها للدكتور محمد إبراهيم العشماوي. (لم أطلع عليه).
كتبه / نواف عباس المناور